هل يمكن تجنب 11 سبتمبر العربي!؟ (2 من 2)… ما هي العناصر الداخلية لتردي موجة الديمقراطية الرابعة عندنا ؟

In مقالات رأي by CIHRS

بعد أن تناولت الحلقة السابقة العوامل الخارجية وراء تردي الموجة الديمقراطية، ننشر هنا الحلقة الثانية والأخيرة.

على الصعيد الداخلي، وبرغم حقيقة أن قوى الإصلاح في العالم العربي لم تكف عن المطالبة بالإصلاح منذ أربعة عقود –على الأقل منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967 العسكرية– وحقيقة أن إحدى أهم العقبات في طريقها خلال ذلك كان الدعم الخارجي لنظم الاستبداد، إلا أن الشروط الرئيسية للتفاعل الداخلي مع الموجة الرابعة للتحول الديمقراطي لم تكن متوافرة، وذلك نظرا لعدم توافر مقومات قاعدة مجتمعية للإصلاح. فباستثناء المغرب والتطور الأخير في موريتانيا، فإن النظم الحاكمة في باقي البلدان العربية افتقرت للإرادة اللازمة للشروع بالإصلاح السياسي، ولذا انصرف كل جهدها خلال عامي 2004- 2005 إلى السعي لتخفيف الضغوط الخارجية والداخلية عليها وامتصاصها، والعمل على تعزيز التناقضات الداخلية في الجبهات الأخرى في الداخل والخارج، والتحالف مع “الشيطان” من أجل قطع الطريق على الإصلاح. إن المهارة الفائقة التي أدارت بها النظم العربية الحاكمة -بقيادة مصر- هذه الأزمة المصيرية، تستحق أن تدرس كنموذج في علم إدارة الأزمات، ولو كانت هذه النظم تدير مجتمعاتها بـ 5 % فقط من هذه المهارة، ربما ما كانت تحتاج أي إصلاح!

أما أبرز تقنيات هذا التصرف وأشكاله فهي:

–       الزعم بأنها قد غيرت جلدها، وأنها قررت أن تتجاوب مع دعاوى الإصلاح. (مؤتمر القمة العربية في تونس في أيار (مايو) 2004، الذي تضمن لأول مرة في تاريخ جداول أعمال القمم العربية قضية الإصلاح والديموقراطية، وتنظيم حكومتي اليمن ومصر مؤتمري صنعاء والإسكندرية للإصلاح العربي في كانون الثاني وآذار (يناير ومارس) 2004، اللذين انتهيا بوثائق ألقتها النظم العربية في سلة المهملات بعد أن أدت وظيفتها في تهدئة خواطر المجتمع الدولي، وامتصاص ضغوطه.

–       التجاوب مع برامج الدعم المادي الدولي للديموقراطية، وتسهيل انعقاد المؤتمرات وورش العمل وحلقات المناقشة، بمشاركة عناصر حكومية عربية، وخاصة في دول الخليج والأردن ومصر. لكن الأخيرة وضعت عراقيل أمام فتح مكاتب للمنظمات الأميركية، ولكنها لم تضع عراقيل أمام تلقي مؤسسات أميركية أخرى موجودة في مصر منذ زمن، دعما للتدريب على الديمقراطية.

–       رفع شعار الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية، وأن الإصلاح يأتي من “الداخل” فقط، لكبح جماح اندفاع دعاوى المجتمع الدولي للإصلاح “من الخارج”، الأمر الذي انتهى عمليا برفض دعاوى الإصلاح، سواء جاءت من الداخل أو الخارج.

–       رفع شعار التدرج، وأن التحول للديموقراطية احتاج في المجتمعات الأوروبية مئات السنين، الأمر الذي انتهى في الممارسة العربية إلى عدم التقدم خطوة واحدة للأمام، بل العودة للخلف في بعض البلدان مثل مصر وسورية والبحرين…

–       العمل على خلخلة إجماع المجتمع الدولي حول أهمية إصلاح العالم العربي ووسائل تحقيقه، وذلك من خلال السعي لتوسيع الفجوة بين المواقف داخل النخبة السياسية الأميركية، وبين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

–       تقديم عروض أكثر إغراء لأوروبا وأميركا، لخدمة مصالحها الأمنية في المنطقة، خاصة مع بروز تحديات أمنية إقليمية جديدة، باتضاح انهيار المشروع الأميركي في العراق، ووصول حماس للحكم في فلسطين، وصعود إيران كقوة إقليمية، وتفاقم مخاطر تصدير الإرهاب. ولكن هذه العروض لم تنطو عمليا على المساهمة الجادة في وضع حد نهائي لأي نزاع. فالإستراتيجية المشتركة للنظم العربية كانت دائما الحرص على إبقاء النزاعات الإقليمية ساخنة، بحيث تحافظ على استمرار هاجس الأمن القومي متقدا دائما، وقابلا للتوظيف مع الشعوب ونخبها السياسية والثقافية، لإبقاء اهتمامها مركزا على العدو الخارجي، وبالتالي الدعم غير المباشر لمشروعية استمرارها دون تغيير، ولكن دون السماح لهذه النزاعات بالتفاقم إلى درجة تهدد فيها مصالح هذه النظم.

–       التوظيف البارع للإسلاميين كفزاعة لتثبيط حماسة الدعوى للإصلاح، سوءا لدى المجتمع الدولي، أو لدى النخب السياسية المحلية الليبرالية واليسارية والعلمانية والقومية. وتقدم مصر أبرع الأمثلة: فقد جرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة فيها ولأول مرة، دون وجود أي عضو بالإخوان المسلمين في السجون، إذ تم الإفراج عنهم جميعا قبل الانتخابات بأيام، ليتمتعوا خلال المرحلة الأولى، والجولة الأولى من المرحلة الثانية من الانتخابات بأفضل مناخ سياسي وأمني مقارنة بكل الانتخابات التي جرت على مدار ربع قرن! وهو ما ساهم بشكل مباشر في حصولهم على 20% من مقاعد البرلمان. كان هذا مكسبا تكتيكيا ممتازا للإسلاميين، ولكنه تحول لمكسب استراتيجي للنظام المصري، ولنظم عربية أخرى، لأنه أسهم في حسم الجدل حول الأولويات في أوروبا وأميركا، لصالح أولوية المصالح الأمنية الإقليمية على حساب الإصلاح الديمقراطي للعالم العربي؟

–       التنسيق مع اللوبي الإسرائيلي القوي في الكونغرس الأميركي على أرضية المصالح المشتركة ضد الإصلاح السياسي، خاصة بعد صعود الإسلاميين -العدو المشترك لهذه النظم وإسرائيل- في انتخابات مصر وفلسطين.

–       إذكاء مشاعر العداء الديني للغرب “الصليبي”، وانتهاز مناسبة أزمة الرسوم الدانماركية لإشعال مواجهة سياسية وإعلامية وشعبية كبيرة، لم تتورع حتى عن تسهيل الاعتداء على السفارات وحرقها، بما يساعد على صرف الانتباه عن التناقضات المحلية، وتوجيهه نحو المخاطر الخارجية التي “تستهدف” الإسلام.

–       رفع أعلام “حقوق المرأة” عالية خفاقة، وتنظيم عدد هائل من الاجتماعات والمؤتمرات لأجلها، بحضور “السيدات الأوائل” في الدول العربية، وبرعاية الجامعة العربية في أغلب الأحيان. إن تقديم التنازلات في هذا المجال لا ينعكس مباشرة على طبيعة النظام السياسي وموازين القوى، فضلا عن أنه يساعد على تخفيف الضغوط الدولية المطالبة بالإصلاح، فهي على الأقل تحصل على شيء ما!

–       وأخيرًا، تواصل كل أشكال القمع البوليسي والتشريعي والإداري والإعلامي خلال عامي “الإصلاح”، بما في ذلك تكثيف حملات الاغتيال المعنوي عبر وسائل الإعلام، للرموز السياسية الجديدة الصاعدة.

غير أن النخب غير الحاكمة في العالم العربي لم تكن أيضا مؤهلة للاضطلاع بقيادة عملية الإصلاح، فهى تعاني تاريخيا ولعدة عقود متصلة من القمع المنهجي المنظم –بمساعدة أو تواطؤ المجتمع الدولي- الأمر الذي أدى لأن تصبح دائما محدودة العدد، هشة ومنقسمة على نفسها إلى درجة التشرذم، ويسهل دائما التلاعب السياسي والأمني بها، وخاصة في مجتمعات يتفشى فيها الفساد المالي والإداري والسياسي، بمستويات تفوق بكثير كل ما تقوله المنظمات الدولية المعنية بمكافحة الفساد عن هذه المنطقة.

لم يكن الإصلاح الديمقراطي أولوية راسخة لدى أي قطاع ذي شأن من هذه النخب، التي تتنازعها أولويات أخرى في فلسطين ولبنان والعراق بشكل خاص، أو في المواجهة مع الغرب بشكل عام. ومن ثم لم يكن مثيرا تماما للدهشة أن نجد أقساما نشيطة من هذه النخب، تقف في صف المواجهة الأمامي مع النظم الحاكمة والقوى في بلادها –حول قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان- ولكنها تساند في نفس اللحظة النخب الحاكمة المعادية للإصلاح في سورية ولبنان والسودان وغيرها، ثم تقيم سرادقا للعزاء في عدة عواصم عربية تكريما لـ”الشهيد”/ السفاح صدام حسين بعد إعدامه!

لقد كان سلوك رموز وأقسام هامة من هذه النخب مثيرا للسخرية والنفور الأخلاقي، فهي تولول على غياب الديمقراطية في بلادها، وتطعنها في الظهر في وضح النهار في بلاد أخرى! تصرخ باكية دفاعا عن حقوق الإنسان المستباحة في بلادها، بينما تمجد السفاحين في بلاد أخرى، وترفعهم لمرتبة الأبطال التاريخيين! تستنجد بالعالم لوضع حد للاغتصاب الجماعي للنساء المسلمات في البوسنة، وتستنكر أن يهب العالم لنجدة النساء المسلمات اللواتي يتعرضن للاغتصاب في دارفور!

لقد كانت هذه المواقف المتناقضة، مزدوجة المعايير المفتقرة لأية جاذبية أخلاقية أحد أبرز العقبات أمام إمكانية توسيع القاعدة المجتمعية للإصلاح.

ومن أبرز نقاط الضعف في تكوين هذه النخب، هشاشة المكون الحقوقي في الوعي السياسي لأقسام منها، الأمر الذي جعل بعضها ينزلق لتبني بعض أنماط الخطاب الحكومي المعادي لحقوق الإنسان، أو لرفض تبني قضايا حقوقية حيوية في برامج عملها، مثل قضايا الأقليات الدينية أو العرقية أو حقوق المرأة، أو حرية الفكر والاعتقاد والإبداع الأدبي والفني، وهو ما كان له تأثير سلبي على قدرتها على توسيع قاعدة الدعم المجتمعي لها. ومن المفارقات المثيرة للتأمل في هذا السياق، أن حركة “كفاية” في مصر، تجنبت تضمين برنامجها المطالب الحيوية المشروعة للأقباط، ولم يفلح اختيارها قبطيا على رأسها –وهو تطور لم تعرفه مصر من قبل- في تجسير هذه الفجوة، وجذب دعم الأقباط لها.

كما لعب الفشل المزمن لهذه النخب في التوصل لحل توافقي خلاق حول قضية العلاقة بين الدين والدولة، في أن تصير الديموقراطية خطرا -في نظر أقسام أخرى من هذه النخب- لا يقل عن مخاطر استمرار نظم الاستبداد الحالية، بل قد يفوقها نظرا لاحتمال أن تأتي الديمقراطية بالإسلاميين للحكم. مثال ذلك موقف أقسام من النخب اليسارية والعلمانية والليبرالية في الجزائر وتونس ومصر – في الأخيرة يمكن أيضا إضافة الأقباط ككتلة- التي صارت تخشى تبعات “الديمقراطية” أكثر من تبعات استمرار الاستبداد.

هذا النمط من التناقضات والمفارقات مكن النظم الحاكمة دائما من التلاعب السياسي والأمني بأقسام حيوية من تلك النخب، وضرب بعضها ببعضها الآخر، وخلق فجوة ثقة دائمة بين بعضها البعض، يستحيل معها تحقيق توافقات ذات طابع استراتيجي قادرة على الصمود حتى لبضعة أسابيع، مقابل القدرة دائما على إقامة تحالفات تكتيكية قصيرة الأمد بين النخبة الحاكمة وأقسام متغيرة من النخب غير الحاكمة في مواجهة الأقسام الأخرى.

وعلى صعيد الرؤية والتكتيك، تبنت بعض الجماعات السياسية الجديدة تصورات مبالغ فيها حول مدى تأثيرها الفعلي في الواقع، و/أو مدى فعالية وثبات الموقف الدولي الداعم للإصلاح السياسي، و/أو مدى ضعف النظم الحاكمة في بعض الدول العربية، وطبيعة علاقات القوى المحلية. وبناء على هذه التقييمات غير الواقعية، تبنت بعض هذه الجماعات تكتيكات سياسية وتعبوية ذات طابع انتحاري، و/أو شعارات سياسية شديدة التصادم مع النظم الحاكمة، و/أو وضعت أهداف حركية خيالية لا صلة بها بواقع حال الجماهير المبعدة عن ميدان السياسة والكفاح الجماهيري منذ عدة عقود، الأمر الذي أدى إلى فشل ذريع في توسيع صفوف تلك الجماعات، وجذب دعم جماهيري لها، واستنفاد طاقة طلائع محدودة العدد في أعمال لم يبق منها سوى أثرها الإعلامي والتاريخي.

نظرا لهذه الهشاشة السياسية والفكرية والحقوقية والتشرذم، لم يتوافر حد أدنى من قوة دفع من الداخل نحو الديمقراطية، بل كانت مجرد أشواق رومانسية تتطلع للديمقراطية بصوت عال وأشكال صاخبة، دون أن تكون على استعداد لدفع الثمن/المهر المطلوب، الذي من الخطأ اختزاله في الاستعداد الفردي للتضحية بالنفس وبالأمان، بل هو يقاس بمدى الاستعداد لدفع الثمن السياسي، المتمثل في عمق الإيمان بأولوية الإصلاح على حساب أي اعتبارات محلية أو إقليمية أو دولية أخرى، والاستعداد بالتالي لتقديم تنازلات متبادلة بين النخب غير الحاكمة، بما يمكنها من تشكيل قطب ورقم حقيقي في المعادلات السياسية، قادر على القيام باختراق ولو محدود، أو فتح ثغرة في جدار احتكار النخب الحاكمة للسلطة والثروة.

لقد سبق أن شخصت مبكرا وثيقة مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان “أولويات وآليات الإصلاح في العالم العربي” (تموز/يوليو 2004) الشروط اللازمة للإصلاح السياسي في:

–       “توافر إرادة سياسية صلبة للنخب السياسية والثقافية، وتوافقاً على الأولوية القاطعة لقضية الإصلاح السياسي على جدول أعمالها، وعلى حساب أية قضايا أخرى مهما بلغت أهميتها”.

–       “التوصل إلى حل توافقي خلاق لإشكالية علاقة الدين والدولة، دون أن يخل ذلك بجوهر قضية الإصلاح، أو يقود لإحلال نظام استبدادي محل آخر”

–       “التوافق حول برنامج حد أدنى للإصلاح، في كل دولة”.

–       “توافر إرادة سياسية بالإصلاح من جانب النخبة الحاكمة، أو على الأقل عدم اللجوء للعنف لقمع حركة الإصلاح”. بسبب الافتقار إلى هذه العوامل الداخلية والخارجية، فشلت الموجة الرابعة للتحول الديمقراطي في اجتياز المياه الإقليمية للعالم العربي.

ولا شك أن الفشل الذريع لمشروع دمقرطة العراق من خلال غزوه واحتلاله، كان له تأثيرا كابحا إضافيا على الإرادة المترددة للمجتمع الدولي وعلى التفاعلات الداخلية بالمنطقة. في حقيقة الأمر أنه لم يكن هناك أكثر إجراما وحماقة من غزو العراق، سوى الطريقة المستهترة واللا مسئولة التي أدارت بها الإدارة الأميركية عملية إعادة بناء قدرات العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين.

كما لعب تفاقم مأساة الشعب الفلسطيني خلال نفس الفترة -نتيجة الدعم الأميركي السياسي والدبلوماسي المطلق للسياسة الإسرائيلية، الذي بلغ آفاقا غير مسبوقة- دورًا حيويا في تقويض ما بقى من مصداقية لمشروع دمقرطة العالم العربي، وخاصة بعد التحفظ الأوروبي/ الأميركي على نتائج الانتخابات البرلمانية الفلسطينية الأخيرة، التي كانت الأكثر نزاهة وحرية في العالم العربي!

علاوة على ذلك، فإن الطفرة التي حدثت في أسعار النفط خلال نفس الفترة، قد أمدت النظم العربية الحاكمة بموارد مالية كبيرة غير متوقعة، ساعدت على توسيع هامش المناورة مع شعوبها. فضلا عن تعزيز الموارد المادية لجماعات الإرهاب والتطرف الديني؛ وهو ما ساهم أيضا في تعزيز الهجوم المضاد.

غير أن الأمر لم يتوقف عند انحسار الموجة الرابعة، بل إن هجوما مضادا بدأ يحل محل الموجة المنحسرة، من أبرز ملامحه:

–       تعاظم قوى الإرهاب في العالم العربي، وإقامتها قاعدة أساسية لها في بلد جديد هو العراق (لم يكن على خريطتها قبل ذلك)، وعودتها إلى مصر مع توطنها في منطقة جديدة تماما (سيناء)، وظهور خلايا تابعة لها قامت بعمليات متفاوتة العنف في بلدان جديدة أخرى (سورية والمغرب وتونس والجزائر ولبنان وغزة)، مع استمرار النشاط المتقطع للخلايا النائمة في السعودية واليمن.

–       الصعود العنيف للهوية الطائفية والمذهبية في المنطقة، وانتقال التوتر الطائفي السني/ الشيعي إلى مستوى الحرب الأهلية المتقطعة في العراق، وانعكاسات ذلك في تصاعد التوتر الطائفي في المنطقة في بلدان عدة. وعلاوة على الاحتمالات الوشيكة لأن ينتقل العراق إلى مرحلة الحرب الأهلية المتواصلة الأكثر دموية التي تقود للتقسيم، فإن حربا من نوع آخر بدأت في اليمن بين الجيش اليمني والحوثيين (زيديين أقرب للشيعة) في منطقة صعدة لأسباب طائفية مذهبية وسياسية. فضلا عن مخاطر لاندلاع حرب أهلية جديدة في لبنان لأسباب تجمع بين الاعتبارات الإقليمية والسياسية والطائفية.

–       توسع ظاهرة الميليشيات الخاصة التي تشكل مزيجًا فريدًا من انشقاقات حلقية من فصائل نظامية -تفتقر لأي جدول أعمال سياسي- وعصابات البلطجة والنهب، وعصابات المرتزقة التي تنفذ عمليات الخطف أو القتل بالأجر، وغيرها (نموذج العراق وفلسطين).

–       تزايد الدعم الشعبي للقوى المعبرة عن الإسلام السياسي -على ضوء إفلاس وفساد النظم السائدة وإغلاق الطريق أمام أي بدائل أخرى- بما يحمله ذلك من جدول أعمال، ربما أكثر ظلامية (مثال فلسطين ومصر وسورية وتونس). وانعكاس ذلك في ميل الحكومات العربية المتزايد لصبغ نظمها الاستبدادية بالدين، مثال مصر وسورية، ولدعم مشروعيتها السياسية التي تتآكل تدريجيا منذ زمن طويل.

–       تشديد القبضة القمعية –بعد إدراك الحكومات العربية لانصراف اهتمام المجتمع الدولي عن قضية الإصلاح- بمستويات تفوق ما كان متبعا قبل طرح المبادرات الدولية. مثال سورية، ومصر التي اعتمدت عددا من أخطر التعديلات الدستورية، التي يترتب عليها لأول مرة توفير حماية دستورية للسلطات القمعية الاستثنائية التي تتمتع بها أجهزة الأمن، بعيدا عن المحاسبة القضائية، فضلا عن توسيع غير مسبوق في دور القضاء الاستثنائي وخاصة العسكري، على حساب القضاء الطبيعي؛ الأمر الذي سيدفع بمشروع الدولة البوليسية الأمنية خطوات كبيرة للأمام ويرسخ مرتكزاته.

–       هزيمة قوى الإصلاح في إيران بعد انتهاء ولاية خاتمي، وصعود القوى الأكثر محافظة ومقاومة للحداثة والديمقراطية، والأكثر استعدادا لتوظيف الهوية الطائفية في مشاريعها الإقليمية.

إن المؤشرات السالف الإشارة إليها، تعني أن المنطقة العربية يتنازعها سيناريوهان، الأقل مرارة فيهما، هو التعايش اليومي لفترة ليس لها سقف زمني معروف، مع توتر طائفي ساخن (في الخليج والسعودية) يرتفع في بعض الأحيان إلى عنف دموي متقطع (في العراق واليمن)، وتوتر عرقي وسياسي ساخن في جنوب السودان، يرتفع إلى عنف دموي متقطع في دارفور، جنبا إلى جنب مع نظم حكم بوليسية، أو تتجه القبضة القمعية فيها نحو مزيد من التشدد والعنف دون مقاومة تكفي لعرقلتها.

أما السيناريو الأكثر مرارة، فهو ينطوي على تفاعل معطيات السيناريو السابق، لينتج حروبا أهلية في العراق ولبنان وفلسطين واليمن والسودان (في حال توجه الجنوب نحو الانفصال، وهو الاحتمال المرجح) وانعكاسات دموية لا تقل مرارة في بلدان أخرى.

غير أن السيناريو المحتمل لحرب أهلية متواصلة في العراق بين أغلبية شيعية وأقلية سنية، قد يستدعي دعمًا أكثر وضوحا للسنة من جانب البلدان السنية –وهو سيناريو متوقع أيضا للبنان– وفي المقابل تدخلا إيرانيًا عسكريًا مباشرا، وربما تركياً أيضا إذا ما توصل الأكراد في شمال العراق إلى الاستقلال بمصيرهم بعيدا عن المتحاربين من العرب السنة والشيعة. فضلا عن حروب أخرى محتملة لا صلة لها بالتناحرات الداخلية العربية/العربية، مثل قصف أميركي أو إسرائيلي على إيران لإجهاض المشروع النووي الإيراني، أو جولات جديدة من الحروب الإسرائيلية/ العربية الواردة في أي وقت، وخاصة مع لبنان أو سورية أو كلاهما.

هذا السيناريو يعني أن المنطقة العربية ستصير بركانا يغلي ويقذف بحممه الملتهبة في كل اتجاه، ومن المرجح أن المدى الذي ستصله هذه المقذوفات يتجاوز حدود المنطقة. إن “انتفاضة الوحل” أي الهجوم المضاد لقوى الإرهاب والتطرف الديني والعنف الطائفي والاستبداد السياسي والقمع البوليسي لن تنحصر بأسوار العالم العربي مهما ارتفعت. وهو تطور ستكون له انعكاسات وخيمة بدرجة غير مسبوقة على وضعية حقوق الإنسان في المنطقة، قد يكفي لإدراك بعض أبعادها، أن الحرب الأهلية المتقطعة في العراق قد أدت حتى الآن إلى خلق مأساة “فلسطينية” ثانية، وذلك نتيجة تهجير أكثر من 2 مليون عراقي إلى دول الجوار خلال العام الأخير فقط، فضلا عن نزوح للداخل عدد يتراوح بين 2 إلى 9 مليون عراقي آخرين! ترى كم مهاجرا ولاجئا ستقذف بهم الحرب الأهلية المتواصلة الممزوجة بتدخلات عسكرية إقليمية صريحة أو غير صريحة؟ ومع ارتفاع درجة السخونة في المنطقة على هذا النحو، فإنه حتى بلدا مثل المغرب –الوحيد الذي له مشروع إصلاحي خاص به قبل 11/9- لن يفلت من تأثيرات الغليان الذي يجتاح المنطقة.

إن الأمواج الهادرة القوية تخترق الحواجز، وتكتسح الشواطئ، أما الموجات الضعيفة المتهالكة فلا تستثير إلا القاع الراكد، معكرة المياه بلونه. إن الموجة الرابعة للديمقراطية لم تنحسر فحسب، بل جذبت معها إلى أعلى “وحل” القاع، الذي “انتفض” للانتقام!

إن جرعة محدودة من المضاد الحيوي، تكون أحيانا أكثر إيذاءً، فهي قد تمنح الميكروب قدرة أكبر على مقاومة الدواء، وتجعله أكثر عنفوانًا وتوحشًا.

ليست هناك فرصة لمنع انحدار المنطقة إلى جحيم سبتمبر عربي ممتد ، ما لم يسارع المجتمع الدولي إلى بلورة مبادرة أكثر شمولا وعزما للإصلاح، تمزج في حزمة واحدة بين مقتضيات التحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب والتطرف الديني والفساد، والإنفاذ الفوري للحل العادل للمسألة الفلسطينية، ووضع بعض الدول “الفاشلة” –كالعراق- تحت وصاية الأمم المتحدة كمرحلة انتقالية (نموذج ناميبيا قبل الاستقلال). غير أن ذلك يتطلب أيضا ارتفاع النخب الحاكمة وغير الحاكمة في العالم العربي إلى مستوى التحديات الخطيرة المطروحة.

نشر هذا المقال بجريدة الحياة

Share this Post