الإسلام والدولة والسياسة..جدلية الفصل والوصل

In مؤتمرات واجتماعات by CIHRS

أسعى في بحثي القصير هذا إلى مناقشة موضوع هام، هو العلاقة بين الإسلام والدولة والسياسة في السياق الراهن للمجتمعات الإسلامية. والفكرة الأساسية التي سوف أطرحها في هذا الصدد يمكن تلخيصها في نقطتين؛ تفيد الأولى أن الإسلام والدولة يتعين فصلهما مؤسسيا وقبل أن أستطرد في تحليل تلك النقطة سأتوقف لكي أشدد على السمة التي أضفيتها على هذا الفصل، وأعني بها سمة المؤسسية. هذا الفصل بين الإسلام والدولة ضروري إذا أردنا أن نضمن لتلك المجتمعات، أن تصبح مسلمة انطلاقاً من قناعتها الذاتية وليس انسياقا وراء إرادة الدولة القهرية. كما أن هذا الفصل لا وجه للتشكيك في صحته وشرعيته. ذلك أننا لو نظرنا إلى المطلب المضاد أو النقيض له، أي هدف تحقيق دولة إسلامية تقوم بتطبيق الشرعية الإسلامية بوصفها قانونا وضعيا، سنجده لا يتمتع بالتماسك المنطقي من جهة أولى وليست له سابقة تاريخية من جهة ثانية وغير عملي واقعياً من جهة ثالثة وأخيرة. وبكلمات أخرى: تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال سلطة الدولة القهرية غير مرغوب فيه كما لا يمكن تحقيقه.
وفي تقديري أن الدولة العلمانية تمثل هدفاً جديراً بالسعي إليه وقابلا للتحقيق أيضاً. وإذا كان هناك بعض المسلمين يؤكدون على وجود نموذج للدولة الإسلامية، فإن هذا لا يعنى صحة هذا الادعاء أو شرعيته.
وتفيد النقطة الثانية في أطروحتي أن الفصل بين الإسلام والدولة لا يعني الفصل بين الإسلام والسياسة. وهو ما يعنى أن الإسلام والدولة منفصلان ويتعين أن يظلا منفصلين، إلا أن الإسلام والسياسة لا يمكن لهما أن يفصلا كما لا يتعين أن ينفصلا: وهنا أضيف إني أميز بين الإسلام وبين الدولة والسياسة، من أجل تسهيل عملية تنظيم العلاقة بين الإسلام والدولة من خلال السياسة، عبر إخضاع تلك العلاقة للضمانات الدستورية والقانونية.
وفيما يتعلق بالمصطلحات التي تستخدم عادة في تناول هذا الموضوع، أفضل استخدام مصطلح “الشريعة” بدلاًُ من مصطلح “القانون الإسلامي”؛ ذلك أن مصطلح القانون الإسلامي ترجمة غير دقيقة من جهة، كما أن استخدام مصطلح الشريعة من شأنه أن يساعد على التشديد على أن الحديث يدور حول الشريعة كما يقبلها عامة المسلمين. فيما يتعلق بالنقطة الأولى: تشير الشريعة عامة إلى مجمل النظام المعياري الإسلامي، والذي تشمل مكوناته العقائد والعبادات والمبادئ الأخلاقية وأحكام المعاملات. وسوف أشرح في موضع آخر من هذا البحث كيف أن مبادئ الشريعة تشهد تحولاً في طبيعتها الجوهرية، عندما يجري تقنينها بوصفها أحكاماً وضعية تقرها سلطة الدولة، الأمر الذي ينتج عنه فقدانها لخصائصها بوصفها شريعة. وفيما يتعلق بالنقطة الثانية: هناك ميل في إطار المناقشات الجارية بين المسلمين حول قضايا الدين والشريعة، للنظر إلى الشريعة بوصفها نسقا معياريا إلهي وخالد يقوم على القرآن والسنة، وفي المقابل ينظر إلى الفقه على أنه محض تفسير إنساني لتلك النصوص المقدسة وبالتالي يتعين أن يظل مفتوحاً أمام التغيير والإصلاح. وسوف أشرح بإيجاز في موضع آخر في هذا البحث، كيف أنه لا يبدو لي هذا التمييز ملائما من واقع أن فهم الشريعة ثم ممارستها أو تطبيقها عمليا من جانب البشر في إطار واقعهم الاجتماعي، أو بكلمات أخرى: أي فهم إنساني للشريعة، لا يمكن له سوى أن يكون نتاجاً للتفسير الإنساني. وهو ما يعنى أن النقاش الذي أجريه عبر هذه الصفحات موضوعه الشريعة من خلال الفهم الإنساني المتصل بالخبرة الإنسانية، وليس الفقه الإسلامي.
ينطلق الطرح الذي أقدمه هنا من مقدمة نظرية مضمونها، أن الشريعة وبطبيعتها دائماً لا يمكن للمؤمنين بها أن يتبعوا تعاليمها إلا من خلال حريتهم الفردية، وأن مبادئ الشريعة تفقد سلطتها Authority الدينية وقيمتها الدينية عندما يجري فرضها من قبل الدولة.
ومن خلال هذا المنظور الديني والمتعلق بطبيعة الشريعة ذاتها، يتعين رفض تولي الدولة ممارسة السلطة باسم الإسلام، أو بكلمات أخرى: أن تزعم لنفسها سلطة إسلامية. فلو أننا حللنا وظائف الدولة في وجودها الواقعي، بما في ذلك وظيفة التحكيم بين مطالب المؤسسات الدينية والعلمانية المتنافسة، سنجدها في جوهرها وظائف ذات طبيعة علمانية تقوم بها مؤسسة سياسية يتعين ألا نسمح لها بأن تدعي لنفسها سلطة دينية. ذلك أنه مهما كانت طبيعة المعايير والآليات التي تفرضها مؤسسات الدولة وأجهزتها من أجل تنظيم عملية صنع السياسة الرسمية والتشريع، فإن تلك العمليات تظل في النهاية بين أيدي البشر الذين يتحكمون في تلك المؤسسات ويديرون العمليات المتصلة بها وهو ما يعني أنها تظل متأثرة بالتقدير والحكم الإنسانيين، وبالتالي يصبح من الخطأ أن ننظر إلى تلك المؤسسات ومن خلفها الدولة بالضرورة بوصفها ذات طبيعة دينية. وهذا هو ذات ما أشير إليه بوصفه الفصل بين الإسلام والدولة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية من المؤكد أن المعتقدات الدينية للمسلمين سواء بوصفهم مواطنين أو بوصفهم مسئولي دولة، تؤثر على أعمالهم وسلوكهم السياسي. وهو ما أشير إليه بوصفه الصلة أو الارتباط بين الإسلام والسياسة.
تمثل الدولة شبكة مركبة من الأجهزة والمؤسسات والعمليات التي يفترض فيها أن تقوم بتنفيذ السياسات المتبناة من خلال العملية السياسة داخل أي مجتمع. وتعنى الدولة استمرارية مؤسسات مثل الجهاز القضائي والهيئات الإدارية، بوصفها مؤسسات مميزة عن الحكومة أو النظام القائم بوصفهما نتاجاً للسياسات الجارية( ) وهو ما يترتب عليه ضرورة أن تصبح الدولة هي الجزء الأكثر استقراراً وترويا في عملية الحكم الذاتي، بينما تظل السياسة بحكم هي العملية الدنياميكية المختصة بصنع الخيارات بين التوجهات السياسية المتنافسة. ولكي تقوم الدولة بتلك الوظيفة وغيرها من الوظائف يتعين أن تمتلك ما اصطلح على تسميته باحتكار الاستخدام الشرعي للعنف، أي القدرة على فرض إرادتها على كل أهالي المناطق الخاضعة لها. هذه القوة القهرية للدولة التي أصبحت الآن بالمقارنة بواقع الدول عبر التاريخ الإنساني أكثر اتساعاً وأعمق تغلغلا، سوف تعجز عن أداء المهام المنوطة بها إذا مارست وظائفها بأسلوب اعتباطي أو من أجل تحقيق أهداف فاسدة أو غير شرعية. ومن هنا تظهر لنا أسباب الضرورة القصوى للحفاظ على حياد الدولة بقدر ما يسمح لنا بذلك الواقع الإنساني، وهو الأمر الذي يتطلب يقظة دائمة من جانب عامة المواطنين الذين يعملون من خلال شبكة واسعة ومتنوعة من الاستراتيجيات والآليات السياسية والقانونية.( )
يفيد منطق التحليل السابق أن التمييز بين الدولة والسياسة يفترض وجود تفاعل مستمر بين أجهزة ومؤسسات الدولة من جهة، والقوي السياسية والاجتماعية النشطة والمؤثرة ورؤاها المتنافسة للمصلحة العامة من جهة أخرى. هذا التمييز يقوم على الوعي العميق بمخاطر سوء استخدام أو فساد السلطات القهرية للدولة. الدولة لا يجب أن تكون نوعا من الانعكاس الكامل للسياسات اليومية، لأنها يجب أن تكون قادرة على التوسط والتحكيم بين الرؤى والمقترحات السياسية المتنافسة، الأمر الذي يتطلب فيها أن تظل في حالة استقلال نسبي عن القوى السياسية المتعددة النشطة داخل المجال المدني. إلا أن هذا الاستقلال لا يمكن أن يتحقق بالكامل، من واقع الطبيعة السياسية للدولة التي لا تتاح لها إمكانية الاستقلال الذاتي الكامل عن إرادة الحكام الذين يتولون أمر مؤسساتها ويتحكمون فيها. وتلك الحقيقة تحتم النضال من أجل تحقيق درجة من الفصل بين الدولة والسياسة، من أجل أن تظل تلك الفئات المظلومة، الفئات الحاكمة قادرة على اللجوء إلى أجهزة الدولة ومؤسساتها سعيا نحو حمايتها ضد تعديات رجال الدولة ذاتها وإساءة استخدامهم لسلطاتهم.
ويمكن لنا أن نوضح مدى ضرورة تلك الحاجة من خلال مراجعة خبرات الدولة التي عرفت حكم الحزب الواحد الذي مارس سيطرة كاملة على الدولة، من أول ألمانيا النازية مروراً بالاتحاد السوفيتي وحتى العديد من الدول الأفريقية والغربية خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. في مصر وسوريا والعراق على السواء، وبمعزل عن التفاصيل المحددة لخصوصيات حكم الحزب الواحد في كل بلد منها، سنجد أن الدولة كانت قد أصبحت الوكيل المباشر للحزب الذي كان الذراع السياسي للدولة. وفي ظل أوضاع مثل تلك الأوضاع وقع المواطنون فريسة بين الدولة والحزب، ودونما ملجأ قانوني أو إداري لهم من جانب الدولة، أو دونما إمكانية ممارسة المعارضة السياسية الشرعية خارج نطاق سيطرة الدولة. والخلاصة أن الفشل في الالتزام بالتمييز بين الدولة والسياسة يقود إلى التقويض الحاد لسلام المجتمع واستقراره وتطوره الصحي. فالفئات التي وجدت نفسها محرومة من خدمات ومن حمايتها وانتزع منها حقها في المشاركة الفعالة في الحياة السياسية، سوف تلجأ إلى السلبية والانسحاب من التعاون مع الدولة أو تتجه إلى ممارسة المقاومة العنيفة طالما أنها لم تجد أمامها مخارج أقل دماراً من أزمتها وهو ما يعنى أن تلك الجماعات السياسية التي يطلق عليها عامة مصطلح الإسلاميين ينبغي أن يسمح لها بالعمل السياسي الحزبي العلني والقانوني، وإلا فأنها سوف تلجأ إلى ممارسة العنف السياسي في سعيها للسيطرة على الدولة، أو الانقلاب العسكري أو أي وسائل أخرى غير دستورية.
هذه الموازنة الضرورية بين المطالب المتنافسة والعلاقات المتوترة يمكن التوصل إليها، عبر توسط مبادئ وآليات الدستورية وحكم القانون وحماية الحقوق المتساوية لكل المواطنين. إلا أن تلك المبادئ والآليات لن تحقق الهدف المنشود منها، دونما المساهمة الفعالة والمصممة لكل المواطنين، وهو أمر ليس من المرجح حدوثه أن تلك المبادئ والمؤسسات لا تتسق مع معتقداتهم الدينية أو معاييرهم الثقافية التي تؤثر بالضرورة على سلوكهم السياسي. وعلى سبيل المثال تفترض مبادئ السيادة الشعبية والحكم الديمقراطي مسبقاً، أن المواطنين لديهم درجة كافية من الدافع والتصميم من أجل المشاركة في كل الجوانب المتصلة بعملية الحكم الذاتي، بما في ذلك المشاركة في العمل السياسي المنظم الهادف إلى جعل حكومتهم قابلة للحساب ومستجيبة لرغباتهم وانتقاداتهم.
وأعتقد أن وجود الدافع والتصميم لابد له أن يتأثر جزئياً بالمعتقدات الدينية والثقافية التي تساهم في تكييف أفعال المواطنين. وبكلمات أخرى من الضروري بالنسبة للمتدينين أن يجدوا للحكم الدستوري التبرير الديني وحقوق الإنسان بوصفهما الإطار الضروري لتنظيم الدور العام للدين.
إن التحليل الذي أتبناه هنا ينطبق فيما أتصور على أي دين، إلا أني في بحثي هذا سوف أركز فقط على الإسلام والمجتمعات الإسلامية، انطلاقاً من رغبتي في المساهمة في توضيح تلك القضايا التي يدور الآن حولها جدل واسع داخل المجتمعات الإسلامية.
وأعتقد أن التحدي الذي تواجهه تلك المجتمعات هو تحدي الفصل بين الإسلام والدولة، رغم الارتباط الموجود بين الإسلام والسياسة. وما أسعي إلى طرحه وإثبات صحته هنا، هو التأكيد على أن الفصل بين الإسلام والدولة يمثل ضرورة لوجود دور إيجابي ملائم ومستنير للشريعة في حياة المسلمين والمجتمعات الإسلامية. وهذا الرأي يمكنني أيضاً أن أسميه: الحياد الديني للدولة، حيث لا تقوم الدولة ومؤسساتها بمحاباة ومعاداة عقيدة أو مبادئ دينية ما. هذا الحياد ضروري من أجل ضمان حرية الأفراد في تبني أو رفض أو تعديل أي رؤية للعقيدة والمبادئ الدينية. وهو ما يعنى أن تشديدي هنا على ضرورة الفصل بين الإسلام والدولة، يستهدف تحقيق غاية الشريعة في حياة المسلمين وليس نفي دورها المركزي في حياتهم.
وعلى الرغم من أن الموقف الذي أتبناه هنا يماثل الحجة التي تطرح دفاعاً عن العلمانية في المجتمعات الغربية، فإنه يختلف في كونه لا يقر الفصل بين الإسلام والسياسة.
إن الجمع بين الفصل بين الإسلام والدولة والوصل بين الإسلام والسياسة، سوف يسمح لنا بتطبيق المبادئ الإسلامية في السياسة الرسمية والتشريع، ولكن من خلال إخضاع هذا التطبيق لضمانات الدستورية وحقوق الإنسان. والتناول الذي أقترحه هنا يدعو إلى التوسط المتأني والاستراتيجي للتوتر المصاحب للفصل بين الإسلام والدولة (الدولة كشئ مميز عن الحكومة القائمة بأمر السياسة اليومية للمجتمع)، علاوة على تنظيم الصلة بين الإسلام والسياسة، بدلا من محاولة فرض حل باتر لهذا التوتر بطريقة أو بأخرى. وعلى الرغم من هذا الاختلاف الهام، فإن أطروحتي يمكن أن تواجه مقاومة من جانب بعض المسلمين من واقع ارتباطها بالإدراكات السلبية السائدة داخل قطاعات من المجتمعات الإسلامية بوصفها مفهوماً غربياً بحتاً.
هذا الإدراك السلبي العام للعلمانية بين المسلمين، لا يميز بين فصل الإسلام عن الدولة وارتباط الإسلام بالسياسة. ويؤدي الفشل في إدراك هذا التمييز، إلى التعامل مع فكرة الفصل بين الإسلام والدولة بوصفها فكرة تعني الإبعاد الكامل للإسلام من المجال السياسي العام إلى المجال الإنساني الخاص. وإذا كنت لا أتفق مع هذا الفهم ولا أدعو إليه هنا، ما الذي يدعوني إلى استخدام مصطلح العلمانية بالمضامين السلبية التي يحملها معه، والتي من شأنها أن تشوش موقفي؟ لقد فضلت الاستمرار في استخدام هذا المصطلح، مع القيام في نفس الوقت بتوضيح ما الذي أعنيه باستخدامه، ليس فقط من واقع قيمته في التحليل المقارن، ولكن أيضاً من أجل المساهمة في إعادة الاعتبار لمبدأ العلمانية بين المسلمين والتأكيد على أهميته وضرورته.
إن سباق التفاوض المستمر للعلاقة بين الإسلام والدولة والسياسة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، قد تشكل تحت تأثير التحولات العميقة للبنى والمؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيش المسلمون في إطارها ويرتبطون بالمجتمعات الأخرى، الناجمة عن تأثيرات الاستعمار الأوروبي والتغلغل الرأسمالي العالمي. كما أن ذات السياق قد تشكل أيضاً بفعل الأوضاع السياسية والاجتماعية لكل مجتمع، ومن ضمنها التغيرات الداخلية المستلهمة من الخارج والتي ترتب عليها، استمرار تلك المجتمعات في فترة ما بعد الاستقلال في اتباع الأشكال الغربية في مجالات مؤسسات الدولة والتعليم والتنظيم الاجتماعي، علاوة على التنظيمات الاقتصادية والقانونية والإدارية. وكل المجتمعات الإسلامية الراهنة لا تعيش فقط في إطار دول إقليمية مندمجة كليا في النظم السياسية والأمنية والاقتصادية العالمية التي تفرض عليها علاقات اعتماد متبادل مع بقية دول العالم وتعرضها لتأثيرات ثقافية متعددة المصادر، ولكنها أيضا استمرت إرادياً في المساهمة في تلك العمليات بعد تحقيق استقلالها السياسي. وهذه الحقائق تفرض ضمانات موازية لها، وهي العلمانية والدستورية وحماية حقوق الإنسان.

الدولة الإسلامية: وهم خطير
يشكل وجود دولة إسلامية مزعومة تتولى أمر التشريع الوضعي للشريعة الإسلامية نوعاً من النفي لإمكانية تحقق الرؤية الإسلامية للحياة، وليس تحقيقاً لتلك الرؤية. وبعبارة أخرى: هذه الجهود الرامية إلى تحقيق الدولة الإسلامية ليس فقط محكوم عليها بالفشل المصحوب بتكاليف إنسانية ومادية رهيبة، ولكنها أيضاً تقود إلى عكس ما تسعى إليه أو ما هو مفترض فيها. وإذا كان لنا أن نتحدث على نحو من الأنحاء عن تفويض فيما يتعلق بعلاقة الإسلام بالدولة، فإننا يجب أن نعارض تماماً وهم إمكانية وجود دولة إسلامية والأخطار المصاحبة لفكرة فرض الشريعة الإسلامية بواسطة الدولة. وأعتقد أن المسلمين في كل مكان يتعين عليهم أن يرفضوا رفضاً صريحاً فكرة فرض الشريعة الإسلامية كقانون وضعي لأي دولة، إذا أرادوا لأنفسهم أن يعبروا بحرية عن هويتهم الدينية ويمارسون المثل العليا لإيمانهم الديني في إطار الإدارة اليومية لدولتهم ومؤسساتها بما في ذلك إدارة العدالة.
إن العمل من أجل دحض هذا الوهم الخطير، أي وهم إمكانية وجود دولة إسلامية تقوم بتطبيق قهري لمبادئ الشريعة الإسلامية، يمثل مهمة ضرورية إذا أردنا للمسلمين وغيرهم من مواطني الدول الإسلامية إمكانية أن يعيشوا وفقا لمعتقداتهم الدينية وغير الدينية، والأمر المثير للسخرية أن فكرة الدولة الإسلامية والتي جرى التأكيد عليها باسم حق تقرير المصير، قد ظهرت في مرحلة ما بعد الاستعمار، وتقوم على النموذج الأوروبي للدولة ورؤية شمولية للقانون والسياسة العامة بوصفهما أداتين تستخدمهما النخب الحاكمة في إطار عملية الهندسة الاجتماعية. وعلى الرغم من أن الدول التي حكمت الشعوب المسلمة تاريخياً، قد سعت إلى أن تحقق لنفسها شرعية إسلامية عبر طرق وأساليب عديدة، فإنها لم تزعم أنها دول إسلامية. والواقع أن أنصار الدولة الإسلامية المزعومة المطلوب تحقيقها الآن، يسعون إلي استخدام سلطات مؤسسات الدولة كما تكونت في ظل الاستعمار الأوروبي واستمرت بعد الاستقلال، من أجل التنظيم الإكراهي للسلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية عبر طرق محددة تختارها النخب الحاكمة. وهو أمر من الخطورة بمكان أن نحاول تطبيق مثل تلك النماذج الشمولية للدولة والتنظيم السياسي باسم الإسلام، لأن هذا سوف يجعل من مقاومة تلك النماذج أمراً أكثر صعوبة بالمقارنة بمقاومتها في إطار دولة علمانية لا تنسب لنفسها أية شرعية دينية. وفي نفس الوقت من الواضح أن الفصل المؤسسي بين أي دين والدولة ليس أمراً سهلاً، من واقع أن الدولة سوف يتعين عليها أن تقوم بتنظيم دور الدين بوصفها الوسيط والحكم بين القوى الاجتماعية والسياسية المتنافسة كما أشرنا أعلاه.
وأود تأكيد قناعتي التامة بأن الأجيال السابقة من المسلمين قد سعت على الدوام، على اكتشاف الأحكام الشرعية التي ألزمهم الله بها لتوجيه حياتهم في شتى مناحي الحياة اليومية. لكني أيضاً مقتنع بذات القدر أن الفقه الإسلامي هو محض محاولة ذات طبيعة تأملية، من أجل فهم المعنى الدقيق للأحكام التي أنزلها الله لتنظيم حياة البشر( ) ولهذا يبدو لي أمراً منطقياً وصحيحاً أن أفترض أن تلك الأجيال المتتالية من المسلمين، قد جاهدت بإخلاص وحمية من أجل أن ترتفع لمستوى المثل السياسية التي أرساها النبي عليه الصلاة والسلام والأجيال الأولي من المسلمين، انطلاقاً من إيمانها الذاتي بتلك المثل والتعاليم. ولا يدخل في نطاق اهتمامي هنا تقييم مدى نجاح أي جيل أو جماعة من المسلمين، سواء في اكتشاف حقيقة الأحكام أو الإرادة الإلهية بصدد أي موضوع، أو في النجاح في الالتزام بتلك المثل العليا في حياتهم الاجتماعية. فالمسألة التي أتناولها هنا هي إذا كان من الممكن بالنسبة لأي دولة، مهما كانت طبيعة تكوينها ومدي عقلانيتها، أن تقوم بفرض الشريعة من خلال التشريع الوضعي.
أعتقد أنه من المستحيل بالنسبة لأي دولة أن تفرض الشريعة بما هي عليه، كشئ مقابل للالتزام الإرادي بها من جانب المسلمين، وذلك من واقع جوهر طبيعة الشريعة ذاتها في علاقتها بطبيعة ودور الدولة في السياق الحديث. والنقاش الذي أريد إجراءه في هذا القسم من بحثي يتكون من جزئين؛ أولهما أن الشريعة كما يفهمها المسلمون عامة بوصفها طريقة الحياة التي أمر الله باتباعها، لا يمكن أن نحافظ على تلك الخاصية إذا حدث وجرى سنها بوصفها تشريعاً وضعياً. وثانيهما أن الدولة لا يمكنها أن تعمل في السياق الحديث إلا من خلال التشريع الوضعي والتبني الرسمي لسياسات عامة. بكلمات أخرى: لا تستطيع الدولة أن تقوم بفرض أي مبادئ للشريعة إلا من خلال سنها في صورة تشريع، وهو ما سوف يؤدي على الفور إلى نفي خاصيتها التي أشرنا إليها بوصفها شريعة. والأمر الذي لاشك فيه أن المجتمعات الإسلامية لها كامل الحق في ممارسة الحق في تقرير المصير فيما يتصل بهويتها الإسلامية، ويشمل ذلك فرض بعض المعايير الإسلامية من خلال الإجراءات السياسية والتشريعية والقضائية المقررة دستورياً، ولكن ليس بوصفها شريعة إلهية وغير قابلة للتغيير.
إن التأكيد على الحياد الديني للدولة لا يعني أن المبادئ الإسلامية غير ملائمة للقانون أو السياسة العامة. وأؤكد أن المسلمين في استطاعتهم، بل ومن واجبهم أن يقترحوا سياسة أو تشريع يعبر عن عقائدهم الدينية، كما هو حق غيرهم من المواطنين أن يفعلوا ذلك. إلا أني أؤكد أيضاً على ضرورة أن يفعلوا ذلك عبر توسط مفهوم العقل العام Public Reason، وليس بالاكتفاء بالتأكيد على أن تلك المقترحات تتطلبها أو تفرضها الشريعة. وحيث إن الاعتبارات المتعلقة بحجم هذا البحث لا تسمح بمناقشة تفصيلية، لفكرة العقل العام كما طرحها وناقشها العلماء الغربيون ( )، وكيف يمكن أن تطيق في المجتمعات الإسلامية، سوف أكتفي بتناول سريع لها. أستخدم هنا مصطلح العقل العام للإشارة إلي ضرورة وجود أسباب Reasons لتبنى سياسة معينة أو تشريع محدد متاحة ومعلنة للجميع، بالإضافة إلى ضرورة انفتاح عملية النقاش الدائرة حول تلك السياسات والتشريعات أمام المشاركة العامة لجميع المواطنين. وبكلمات أخرى يجب أن يقوم التشريع أو السياسة العامة من حيث غايته والتعليل الذي يقدم لتبرير تلك الغاية، على نوع من التعليل العقلي في إمكان المواطنين عامة أن يقبلوه أو يرفضوه، علاوة على تمكينهم من تقديم مقترحات مضادة من خلال الحوار العام، دونما الإحالة إلى العقيدة الدينية أو الإيمان الديني. وتلك الضرورة، أي العقل العام والتعليل العقلي وليس الإيمان والدافع الديني، تحتفظ بضرورتها سواء كان المسلمون في بلد ما أكثرية أم كانوا محض أقلية، من واقع أنه حتى لو كان المسلمون هم الأغلبية المسيطرة لا يصح لنا توقع اتفاقهم العام أو الدائم على السياسة أو التشريع الذي يعبر عن معتقداتهم الدينية.
وليس من الواقعية ولا هو من الحكمة أن نتوقع من البشر الالتزام التام بمتطلبات العقل العام، لأن مثل تلك الخيارات تؤثر فيها الدوافع والنوايا الإنسانية الدفينة. ومن الصعب علينا أن نعرف لماذا قام الناس بالتصويت بطريقة معينة، أو كيف يبررون أمام أنفسهم أو أمام معارفهم المقربين البرنامج السياسي الذي وقع اختيارهم عليه. ولكن الهدف يجب أن يكون هو دعم وتشجيع العقل العام والنقاش المنطقي، مع تقليل التأثير الحصري للعقائد الدينية شيئاً فشيئاً. إن مطلب العقل العام والنقاش المنطقي لا يفترض أن هؤلاء الذين يسيطرون على الدولة في استطاعتهم أن يكونوا محايدين، في أمور الحكم والقضاء. فهذا المطلب أو الشرط الأساسي ينبغي أن يكون أساس الدولة، لأن هؤلاء الذين يشغلون مؤسسات الدولة ويقومون بإدارتها، من المرجح تماماً أن يستمروا في العمل وفقاً لمعتقداتهم وأهوائهم وتبريراتهم الشخصية. ومطلب العلنية والصراحة يوفر لنا تبريرات تقوم على أسباب يمكن لعامة الناس أن تقبلها أو ترفضها، ومن شأنه أيضاً أن يوفر مع مرور الوقت إجماعاً أكثر اتساعا بين الأهالي عامة، يتخطى نطاق المعتقدات الدينية الضيقة أو أي معتقدات خاصة لمختلف الجماعات. وحيث إن القدرة على تقديم تبريرات عامة ومناقشتها مناقشة عامة، هي بالفعل قدرة حاضرة في أغلب المجتمعات، فإن ما أطالب به وأدعو إليه هنا هو التطوير المدروس والمتصاعد لتلك العمليات والثقافة الضمنية المرتبطة بها، بدلاً من اقتراح أن ما نطلب به غائب تماماً أو من المتوقع تحققه كليا وفوراً.
والخلاصة أن القضية موضع النقاش في هذا القسم هي إذا ما كان في مقدورنا عمليا القيام بفرض الشريعة الإسلامية من خلال سلطة الدولة، كشئ مختلف عن الالتزام الإرادي بتعاليمها من جانب المسلمين النابع من اقتناعهم أو خيارهم الذاتي. ويمكننا أن نرى أهمية هذا التمييز في الاختلاف بين المنع القانوني للفائدة على القروض كجزء من السياسة الاجتماعية والاقتصادية، والامتناع الإرادي عن دفعها أو استلامها التزاما بتحريم الشريعة للربا. وهناك مثال آخر نجده في الاختلاف بين عقود التأمين المحرمة تشريعياً تبعا لتضخم عنصر المضاربة أو الاحتمالية فيها، في مقابل الامتناع عن ممارستها تبعا لتحريم الشريعة لها من واقع كونها: عقود ضرار. وهناك طريقة أخرى لشرح تلك المسألة وهي التشديد على الفارق بين فرض المبادئ والأحكام القانونية وفقاً للمعايير الدستورية والعملية التشريعية الموجودة في بلدنا، وبغض النظر عن المصدر الأصلي لتلك المبادئ والأحكام، وفرض ذات المبادئ والأحكام لأن الشريعة تفرضها بوصفها تعبيراً عن ما قدره الله لتنظيم حياة البشر. وأعتقد أن هناك مساحة من المطالب الراهنة لفرض الشريعة من خلال التشريع الوضعي للدولة يقوم على مغالطة تاريخية، حيث إن هذا الهدف لا يتسق مع طبيعة الشريعة الإسلامية ذاتها، كما أنه من المستحيل بالنسبة للدولة في تكوينها الراهن في أي بلد من بلدان العالم أن تنجح في تحقيقه. وبكلمات أخرى: لا يمكننا تصور تلك الإمكانية على المستوى النظري، كما أنه ليس من الصحيح أن هذا النموذج قد تواجد في الماضي بحيث يمكننا المطالبة بإعادة بنائه. وبالتالي يصبح السؤال الذي يتعين طرحه هو: ما الدور الذي يتعين أن تقوم به الشريعة في مجتمع الدولة الحديثة؟.

الشريعة وقانون الدولة:
يميل المسلمون للاعتقاد أن دولة المدينة في ظل حكم النبي عليه الصلاة والسلام والتي امتدت فيما بين 622 و 632 ميلاديا، قد طبقت بالفعل الشريعة في حياة المجتمع. إلا أني أعتقد أن تطبيق الشريعة في تلك الحالة، لم يكن من خلال تشريع الدولة وإدارتها القابل للتطبيق في إطار المجتمع المعاصر. وبمعزل عن تلك الواقعة الاستثنائية التي سيطرت على واقع تلك الدولة، أي واقعة وجود الرسول عليه الصلاة والسلام الذي استمر في تلقي الوحي الإلهي وشرحه لجماعة المسلمين خلال تلك الفترة، وبشخصيته الاستثنائية وتأثيره الروحاني الخارق وقيادته الأخلاقية الملهمة، كانت الدولة تتكون من جماعات مرتبطة بصلات قرابة قبلية وثيقة وتسيطر عليها روح دينية عارمة وتعيش في إطار مكان محدود إلى درجة كبيرة. ويضاف إلى ذلك أن تلك الخبرة السياسية كانت تقوم على السلطة الأخلاقية للتجانس الاجتماعي، أكثر من قيامها على قوة الدولة القهرية كما هو الحال في مجتمعات أخرى، وهي الظاهرة الفريدة التي انتهت بنهاية حياة النبي صلي الله عليه وسلم، وبكلمات أخرى يمكن اعتبار خبرة دولة المدينة خبرة استثنائية، بدرجة لا تجعلها صالحة أو ملائمة لأن تصبح نموذجاً للدولة في السياق الراهن للمجتمعات الإسلامية أي سياق مرحلة ما بعد الاستعمار بما يتخللها من اعتماد متبادل وتكامل في المجالات الاقتصادية والسياسية. كما يمكن اعتبارها دولة شديدة الاختلاف، لدرجة تجعل ثمة إمكانية لمحاولة إحيائها من جديد. وأعتقد أن المطالبة بتأسيس دولة إسلامية وفقاً لهذا النموذج تتسم بدرجة خطيرة من السذاجة، إن لم نقل التلاعب بمشاعر وأفكار الآخرين.
سأنتقل هنا إلى مسألة أخرى تتعلق بطبيعة الشريعة الإسلامية. واقع الأمر أن ما أضحى يعرف بين المسلمين بالشريعة، ليس في حقيقة أمره سوى نتاج عملية تاريخية بطيئة للغاية وتدريجية وعفوية لتفسير القرآن وجمع وتحقيق وتفسير السنة، جرت خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي الممتدة من القرن السابع الميلادي إلى القرن التاسع ( ) هده العملية قام بها العلماء والفقهاء الذين طوروا منهجيتهم فيما يتعلق بتصنيف المصادر، واشتقاق الأحكام الخاصة من المبادئ العامة، وعمليات فكرية أخرى مماثلة. هذا الجانب المنهجي في عملهم هو الذي أضحى يعرف بعلم أصول الفقه، أي أسس أو مبادئ الفهم الإنساني للمصادر المقدسة. وكما يمكن لنا أن نتوقع كان هناك الكثير من الخلافات والمنازعات فيما بين هؤلاء العلماء الأوائل، حول معنى ودلالة الجوانب المختلفة للمصادر المقدسة التي كانوا يتعاملون معها. ومع أن هؤلاء العلماء كانوا يعملون مستقلين عن السلطات السياسية الحاكمة في زمانهم، لم يكن من الممكن أن ينعزل عملهم عن تأثير الشروط السائدة داخل مجتمعاتهم، سواء في السياقات المحلية أم في تلك السياقات الإقليمية الأكثر اتساعا. وكان للعوامل المختلفة المتصلة بتلك الشروط مساهمتها الحتمية على ظهور الخلافات بين الفقهاء، وأحياناً ساهمت في تكوين التحولات داخل آراء الفقيه الواحد كما حدث في فقه الإمام الشافعي مع انتقاله من العراق إلى مصر. وحتى بعد أن تطورت تلك الآراء الفقهية المختلفة بين العلماء، ليس فقط، وكما هو متوقع، بين علماء مختلف المذاهب، ولكن أيضاً علماء المذهب الفقهي الواحد.
والسؤال الذي أريد طرحه هنا هو: كيف يمكن أن تكون مبادئ الشريعة قد تحددت مسبقاً من قبل الذات الإلهية، إذا كان لا يمكن اكتشافها إلا من خلال الفهم الإنساني للقرآن والسنة ؟. وكما طرح إبراهيم موسي السؤال: عند ما يزعم الفقهاء المسلمون أن استخراجهم لأحكام الشريعة من المصادر الإسلامية المقدسة يعبر عن أحكام الله، يقود المرء للاعتقاد بأن الأمر ,,,,,,,,,,,,,,, وأحد أكثر الأسئلة إثارة للاهتمام التي تواجهنا في دراسة الشريعة يتعلق بالحكم الشرعي وهو: كيف يمكن للفقيه أن يستنتج في نهاية عملية تقييم وبحث تجريبية تماما للوقائع والنصوص التي تحت يديه، إن ما انتهى إليه من نتائج يمثل مرجعية إلهية فوق بشرية( ).
والإجابة الواضحة على هذا السؤال من وجهة نظري، هي استحالة أن تشكل استنتاجات الفقيه على الدوام مرجعية إلهية فوق بشرية، ولا ينبغي أن يقبل أحد أن يضفي عليها تلك السمة. فالعلماء والفقهاء ومهما كان الاحترام الذي يحظون به، وحتى بافتراض أنها تحظى بقبول كل المسلمين في كافة أرجاء العالم الإسلامي وهو ما لم يحدث قط، ليس في مقدورهم أن يمنحونا سوى آرائهم الذاتية في الأحكام الإلهية في موضوع من الموضوعات المطروحة أمامهم.
وكما لاحظنا أعلاه هناك تمييز مقبول عامة في الخطاب الإسلامي بين الشريعة والفقه وكما يشرح لنا برنارد ويس: “أحكام الشريعة هي نتاج تشريع مصدره الله نفسه بوصفه الشارع النهائي، أمام أحكام الفقه فهي تلك الأحكام التي مصدرها البشر: الفقهاء” ( ) هذا التمييز يمكن أن يكون نافعاً بالمعنى التقني، في الإشارة إلى أن بعض المبادئ والأحكام بالمقارنة بمبادئ وأحكام أخرى، مؤسسة على التفكير التأملي أكثر من قيامها على نوع من الدعم النصوصي مصدره القرآن والسنة. ولكن هذا لا يعني أن تلك الأحكام المنظور إليها بوصفها شريعة وليس فقهاً هي النتاج المباشر للوحي الإلهي، لأن القرآن والسنة لا يمكن فهمها أو أن يكون لهم أي تأثير على السلوك الإنساني إلا عبر توسط جهد الكائن الإنساني غير المعصوم من الخطأ”. وعلى الرغم من أن الحكم إلهي المصدر فإن التفسير الفعلي له فعالية إنسانية، ونتائج هذا التفسير يمثل شريعة الله كما يفهمها البشر. وحيث إن الشريعة لا تهبط من السماء مكتملة الصنع، وجاهزة للتطبيق فإن الفهم الإنساني (الفقه يعني حرفيا الفهم الإنساني) للشريعة هو الذي يجب أن يكون المعيار الموجه للمجتمع” ( )
ولأن الفقهاء المؤسسين كانوا على درجة كبيرة من الوعي بكل تلك العوامل، كما تمتعوا بالحساسية تجاه مخاطر فرض ما يمكن أن يكون رؤية خاطئة، سنجدهم قد مارسوا قبولا عميقاً للاختلاف في الرأي، بينما كانوا يسعون إلى توطيد الإجماع فيما بينهم وداخل مجتمعاتهم. وقد فعلوا ذلك من خلال تبني فكرة تفيد أن كل ما يضفي عليه إجماع جماعة العلماء صفة الصحة أو إجماع الجماعة الإسلامية الأوسع في رأي بعض الفقهاء، يعتبر ملزما بشكل دائم للأجيال التالية من المسلمين ( ) لقد كان لتطبيق تلك الفكرة مشاكله العملية الكثيرة، والتي كانت واضحة منذ البداية بالنسبة لهؤلاء الذين أرادوا حصر القوة الملزمة للإجماع في نطاق إجماع مجموعة مختارة من العلماء، كانت المشكلة هي كيفية الاتفاق على معايير تستخدم من أجل تحديد هؤلاء الفقهاء، وكيفية المطابقة والمغايرة بين آرائهم، ومعايير إثبات صحة تلك الآراء. أما إذا قلنا إن سلطة الإجماع أو مرجعيته مستمدة من إجماع جماعة المسلمين عامة، فإن السؤال يظل مطروحا؛ إذ كيف نقرر معايير هذا الإجماع حول موضوع من الموضوعات وكيف نتحقق من صحة حدوثه؟ وسواء افترضنا أن الإجماع هو جماعة العلماء أم افترضنا أنه إجماع جماعة المسلمين عامة، لماذا تحظى رؤية جيل ما بقوة ملزمة للأجيال التالية عليه ؟ مهما كانت الحلول التي يمكن الوصول إليها بالنسبة لمثل تلك الصعوبات النظرية والعملية، فإن تلك الحلول سوف تظل دائما نتاجا للفهم والحكم الإنساني. وبكلمات أخرى: معايير الشرعية لا يمكن استمدادها من القرآن والسنة إلا من خلال الفهم الإنساني، والذي يعني بالضرورة حتمية الاختلاف في الآراء واحتمال الخطأ، سواء جرى تقرير الأمر فيما بين جماعة العلماء والفقهاء محدودة النطاق، أو في إطار الجماعة الإسلامية الأوسع.
وعلى ضوء ما سبق يصبح السؤال هو: كيف وعن طريق من يمكن لذلك الاختلاف في الرأي أن يجري حسمه بشكل صحيح وشرعي في سياق الممارسة العملية من أجل النجاح في تحديد القانون الوضعي الذي ينبغي تطبيقه في حالات محددة ؟ والمعضلة الأساسية التي تواجهنا هنا يمكن شرحها على النحو التالي: من جهة أولى هناك أهمية فائقة لوجود حد أدنى من الثقة في عملية تحديد وفرض القانون الوضعي لأي مجتمع. كما أن طبيعة ودور القانون الوضعي في الدولة الحديثة تتطلب تفاعل حشد من الفاعلين والعوامل المركبة، وهو أمر من المحتمل ألا يستوعبه المنطق الديني الإسلامي. وينطبق هذا على المجتمعات الإسلامية اليوم أكثر من انطباقه عليها فيما مضى، تبعاً لنمو علاقات الاعتماد المتبادل بينها وبين المجتمعات غير الإسلامية على امتداد العالم، وهو ما سوف نقوم بتوضيحه فيما بعد وعلى نحو موجز. ومن جهة ثانية يمثل المنطق الديني أمرا أساسيا للقوة الملزمة لمعايير الشريعة بالنسبة للمسلمين. وعلة ذلك أن الشريعة من المفترض أن تكون ملزمة للمسلم انطلاقاً من قناعته الدينية، من واقع أن المؤمن لا يمكنه أن يلتزم بما يعتقد أنه يمثل تفسيرا صحيحاً وشرعياً لنصوص القرآن والسنة المتصلة بالمسألة موضع الإيمان. وعلاوة على ذلك مهما كانت طبيعة الرأي الذي سوف تنتهي إليه مؤسسات الدولة والمسيطرون عليها، من أجل فرضه بوصفه قانوناً وضعياً معبراً عن الشريعة الإسلامية، لابد أن يواجه احتمال النظر إليه بوصفه تفسيرا غير صحيح للمصادر الإسلامية من جانب بعض المواطنين أو جماعات منهم، وذلك من واقع الاختلاف الإنساني والحتمي في تفسير تلك المصادر من جهة، واختلاف التراث الفقهي في تفسير ذات المصادر من جهة أخرى.
ولقد جرى التعامل مع هذه المعضلة في إطار التراث الإسلامي، من خلال القول بأن “كل مسلم له مطلق الحرية في اختيار المذهب الفقهي الذي يقتنع به، كما أن أي قاضٍ ينظر في قضية مطروحة أمامه ملزم بتطبيق أحكام المذهب الذي ينتمي إليه المتقاضي ( ) وتبعاً لذلك، للفرد أيضا الحق في تغيير مذهبه الفقهي في مسألة بعينها. ولقد استمر هذا الوضع حتى بدأت السلطة المركزية في الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، في التشريع الوضعي لأحكام الشريعة الإسلامية بإصدار مجلة الأحكام العدلية، وهي العملية التي اتسع نطاقها في أغلب البلدان الإسلامية على مدى العقود الأخيرة من خلال سن قوانين الأحوال الشخصية.. وفي هذا الصدد كتب الأستاذ نوبل كولسون: “إن المبدأ المشكل لأساس قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية، هو أن السلطة السياسية انطلاقاً من سعيها لتحقيق التجانس الاجتماعي، تمتلك الحق في اختيار حكم من أحكام الشريعة من بين صيغ مختلفة ومتساوية المرجعية حول نفس الموضوع وأن تأمر المحاكم العاملة في نطاق ولايتها التشريعية والقضائية بتطبيق هذا الحكم واستبعاد كل الأحكام الأخرى. واختيار هذا الحكم أو غيره يجري ببساطة وفقا لمعايير المصلحة الاجتماعية، ومن داخل تلك المدونات القانونية التي تجسد الصيغ التي يمكن اعتبارها أكثر ملاءمة للمعايير والظروف الراهنة داخل المجتمع. ( )
إن ضرورات الثقة والتجانس في التشريع الوطني هي الآن أقوى من أي وقت مضى، ليس فقط من واقع التعقد المتنامي لدور الدولة على المستوى المحلي أو الوطني، ولكن أيضا تبعاً لعلاقات التبادل بين الدول والشعوب التي تسيطر على عالمنا المعاصر. وعلى الرغم من المشاكل العديدة التي تعاني منها النظم القومية والدولية الراهنة، تتغلغل حقائق العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية العالمية بعمق داخل الدول القومية التي تمتلك ولاية تشريعية حصرية على مواطنيها والمناطق الخاضعة لسيطرتها. ولقد كان لتلك الحقائق تأثيرها المؤلم والدموي على الشعوب الإسلامية من خلال الصراعات الإقليمية الحادة التي اعتمدت في المنطقة خلال العقود الأخيرة، وأعني بها الحرب العراقية – الإيرانية التي دارت رحاها في الثمانينيات من القرن المنصرم، ثم تكوين التحالف الدولي الذي شاركت فيه البلدان المسلمة مع البلدان غير المسلمة وتولى أمر إخراج العراقيين من الكويت وأخيرا غزو واحتلال عام 2003 في تلك الصراعات العنيفة كانت حكومات الدول الإسلامية، التي فضل بعضها الانحياز لطرف وفضل بعضها الآخر الانحياز لطرف آخر يتصرف بوصفها دولا ذات مصالح خاصة وليس كأعضاء في جماعة إسلامية واحدة، ومتجانسة أو متحدة، وبالنيابة عن مجمل المسلمين في العالم: الأمة الإسلامية. والمسألة التي أطرحها هنا ليست هي أن طبيعة الدولة هي ذاتها في كل مكان ومجتمع، من واقع أن عملية تكوين الدولة وتوطيدها تختلف من بلد إلى آخر. والصحيح أني أريد طرح وجود خصائص عامة للدولة يجب أن تتوفر في كل بلد إذا أرادت أن تكون جزءاً من النظام العالمي، من واقع عضوية هذا النظام مشروطة باعتراف الدول الأخرى الأعضاء فيه. وإذا أرادت الدول الحاكمة للمجتمعات الإسلامية أن تكون أعضاء في الجماعة الدولية وأن نحافظ على تلك العضوية، فإن ذلك يتطلب التزامها بعدد من السمات المعروفة التي تشكل الحد الأدنى المفترض في وجود الدولة بالمعنى المعاصر للمصطلح. ومن ضمن تلك السمات سمة ذات أهمية مركزية بالنسبة لوجود أي دولة، هي سمة القدرة على تحديد القانون وفرضه في الحياة اليومية. علاوة على ما سبق وكما سوف نشرح في القسم القادم، تمنع طبيعة الدولة ذاتها والسياق العالمي الذي تتواجد فيه الدولة من إمكانية تطبيق الشريعة كما فهمها الفقهاء المؤسسون، وهو الفهم الذي لا يزال حاضراً ومقبولا لدى المسلمين.
وفي ختام هذا القسم أود أن أشدد على أن الشريعة، سواء في صيغتها التقليدية كما يعرفها المسلمون اليوم أو من خلال بعض صيغها وتعبيراتها الجديدة أو الإصلاحية، سوف تظل دائما فهماً إنسانياً ذا طبيعة تاريخية للقرآن والسنة. وفي حين أني أشارك كل المسلمين إيمانهم أن تلك المصادر ذات طبيعة مقدسة، لديَّ قناعة تنطلق من فهم واضح تفيد أن تفسير تلك المصادر والتعبير عنها بوصفها معايير للشريعة كان دائما وسوف يظل باستمرار جهداً إنسانيا، قابلاً للتحدي وإعادة التشكيل من خلال بدائل إنسانية أخرى لفهم ذات المصادر. وبكلمات أخرى: لا يمكن للمصدر الإلهي للشريعة أن يؤثر على حياة الإنسان وخبرته إلا عبر توسط الوجود الإنساني نفسه، أي عبر توسط فهم الإنسان لتلك المصادر وتطبيقه لها في سياق تاريخي محدد تعيش فيه المجتمعات الإسلامية.
وكما أشرت من قبل لا يعني هذا أن المجتمعات الإسلامية لا تمتلك الحق في تقرير مصيرها الثقافي، أو أن تلك المجتمعات عاجزة عن تحقيق هذا الهدف. بل على العكس، أعتقد أن المجتمعات الإسلامية تمتلك هذا الحق، وفي إمكانها تحقيق هذا الهدف. إلا أنني أيضا على قناعة تامة أننا إذا أردنا تحقيق هذا الهدف، يتعين على المجتمعات الإسلامية أن تتخلى تخلياً صريحا عن توقعاتها لفرض الشريعة من قبل هذه الدولة الإسلامية المرتجاة. وفي القسم التالي من بحثي هذا سوف أقدم تحليلاً أولياً لشروط ممارسة حق تقرير المصير، والسياق التاريخي الذي سوف تمارس فيه المجتمعات الإسلامية هذا الحق، وبالتالي يتعين أن تأخذه في اعتبارها.

حق المجتمعات الإسلامية في تقرير مصيرها الثقافي:
هناك مساحة كبيرة من الخطاب العام الراهن داخل الكثير من المجتمعات الإسلامية، تسيطر عليها النزعات المؤيدة والمعارضة لفكرة الدولة الإسلامية المفترض قيامها بتطبيق الشريعة الإسلامية بطريقة شاملة ونظامية. وفي نطاق المصطلحات المتداولة داخل هذا الخطاب وأحيانا خارجه، يطلق على أنصار تلك الفكرة والمناضلين من أجل تطبيقها مصطلح الإسلاميين، أما خصومها فيسمون بالعلمانيين. وكل فريق من الفريقين تحصر تعاملاته مع قاعدته السياسية والثقافية ولا يسعى إلى مخاطبة قاعدة الفريق الآخر، كما لا نجد تفاعلات بين الفريقين باتجاهاتهما الداخلية المختلفة، أي التقليديين أو الأصوليين على جانب والليبراليين أو القوميين على الجانب الآخر. وفي هذا القسم سأحاول نقد هذا الانقسام الإسلامي – العلماني والافتراض الذي يقوم عليه، وبعد ذلك سوف أحاول تقديم تحليل موجز للعوامل الأساسية التي ينبغي على المجتمعات الإسلامية أن تراعيها أو تلتزم بها في سعيها لممارسة حقها في تقرير مصيرها الثقافي في السياق المعاصر. وفي كلمات أخرى سوف أحاول أن أطرح وأوضح ما لا يمكن أن يعنيه حق تقرير المصير بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، وبعد ذلك سوف أقدم بعض المقترحات حول ما يمكن أن يعنيه هذا الحق اليوم.
سوف أبدأ بتوضيح بعض المصطلحات. أتصور أن مصطلح الدولة الإسلامية قد يصلح للاستخدام كنوع من الاختصار، من أجل الإشارة إلى الدول التي يشكل المسلمون أغلبية واضحة من سكانها، وفي حدود هذا الاستخدام أعتقد أن الصفة المشتقة من الإسلام الموجودة في المصطلح يجب أن نتعامل معها على أنها تشير إلى مواطني تلك الدول وليس إلى الدولة ذاتها بوصفها مؤسسة سياسية. ويميل بعض العلماء إلى استخدام مصطلح دولة إسلامية، للإشارة إلى تلك البلدان التي أعلنت رسميا أن الإسلام هو دين الدولة أو التي تشكل الشريعة مصدرا رسميا للتشريع داخلها. وأعتقد أن مثل تلك التوصيفات مضللة، لأن تلك الخصائص لا تشكل تعبيرا محدداً عن خاصية إسلامية موجودة في الدولة بوصفها مؤسسة سياسية. وإذا لم تكن لدينا مواقف عقائدية مسبقة تجرفنا تلقائيا نحو قبول ادعاء دولة ما بكونها دولة إسلامية، فإن القضية يمكن صياغتها في السؤال التالي: من الذي يمتلك سلطة تحديد خاصية كون الدولة إسلامية ؟ ووفقا لأي معيار يجري هذا التحديد ؟ على سبيل المثال ليس من المرجح أن تقبل المؤسسة الدينية والسياسية في المملكة العربية السعودية ادعاء الحكومة الإيرانية الراهنة كونها دولة إسلامية، أو حتى أن تقبل فكرة الجمهورية ذاتها. ومن المنظور الإيراني لا يمكن التعامل مع المملكة السعودية ومن خلال اسمها نفسه بوصفها دولة إسلامية، كما لا يمكن إضفاء شرعية إسلامية عليها تبعاً لالتزامها الظاهري بتطبيق الشريعة الإسلامية.
وأعتقد أن الدولة الإسلامية بوصفها مؤسسة سياسية دولة مستحيلة نظرياً، كما أنها لم تتواجد في نطاق الخبرة التاريخية، ولا يمكن لها أن تتواجد اليوم ما لم تتمكن من التعبير عن الافتراضات التي قامت عليها والأهداف التي تفرضها تلك الافتراضات. وهنا أستعيد حجة سبق لي أن طرحتها في هذا البحث ومضمونها أن الدولة الإسلامية مستحيلة نظرياً لأن ادعاء الدولة قيامها بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية في الحياة اليومية للمجتمع هو تناقض في الألفاظ، حيث إن فرض الشريعة الإسلامية من خلال الإرادة السياسية للدول يمثل نفياً للتعليل الديني للقوة الملزمة للشريعة. ولأن فرض الشريعة من جانب الدولة يتطلب عملية سن رسمي للقانون بوصفه القانون السائد داخل البلاد، أو تبني سياسات واضحة تحدد عملا معيناً لأجهزة الدولة، فإن الهيئات التشريعية والتنفيذية للدولة ومهما كانت الأشكال التي قد تتخذها، سوف تضطر للاختيار بين تفسيرات مختلفة للقرآن والسنة تمتلك على الرغم من اختلافاتها حجية دينية متساوية. وبكلمات أخرى: أي مبدأ من مبادئ الشريعة أو أي حكم من أحكامها سوف يتوقف عن كونه جزءاً من النسق الديني المعياري، تبعاً لفرضها على الناس في صورة قانون وضعي صادر عن الدولة، لأن الدولة في إمكانها فقط أن تفرض على الناس إرادتها السياسية وليس إرادة الله أن الاستحالة العملية لفرض الشريعة بوصفها قانوناً وضعياً، يمكننا أن نؤكد عليها أكثر من واقع إقرار غالبية المسلمين بعدم وجود دولة إسلامية بهذا المعنى، منذ نهاية دولة الرسول في المدينة. ولا يوجد أساس للمقارنة بين هذه الدولة، والدول الإمبراطورية التي أعقبتها وتسيدت التاريخ الإسلامي، وقطعاً سوف تتسع المسافة ويتعمق التناقض إذا شرعنا في المقارنة بينها وبين الدول الإسلامية المعاصرة ذات التكوين المركب، وهي دول تعيش فيها تركيبات سكانية متنوعة ومتنافرة كما تعيش هي ذاتها في سياق عالمي تدخل معه في علاقات اعتماد متبادل على شتى المستويات.
إن غياب وجود سابقة تاريخية لوجود الدولة الإسلامية سوف تزداد أهميته ودلالاته، إذا نظرنا إلى التحولات الكلية التي حدثت في السياق المحلي والدولي الذي تتواجد فيه الدولة المعاصرة وتنشط. ففي ظل هذا السياق بتحولاته العامة والعميقة، إذا حدث وقررت دولة ما أن تعمل وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، فسوف تجد تلك الدولة نفسها عاجزة عن العمل في السياق الوطني والدولي الراهن. ومن ضمن الصعوبات التي سوف تواجه وجود وعمل تلك الدولة، الازدواجية العميقة التي نجدها لدى الفقهاء المؤسسين للشريعة فيما يتعلق بالسلطة السياسية. فهؤلاء الفقهاء لم يسعوا إلى التحكم في السلطة، ولا عرفوا كيف يجعلون هؤلاء الممسكين بمقاليدها قابلين للمحاسبة أمام الشريعة. ويضاف إلى ذلك أن الأنشطة الاقتصادية داخل الدولة سوف تواجه انهيارا، نتيجة للتحريم القانوني الرسمي للفائدة الثابتة على القروض (الربا) وتحريم التأمين بوصفه عملية اقتصادية مالية تقوم على نوع من عقود المضاربة (الضرار). كذلك من المؤكد أن فرض العقوبات على جرائم الحدود، سوف يواجه اعتراضات حادة غير قابلة للحل فيما يتصل بالجوانب الإجرائية وأساليب الإثبات، دون أن نتطرق إلى الحديث عن الجوانب المتعلقة بحقوق الإنسان والمتصلة بالمعاملة أو العقاب القاسي وغير الإنساني أو المنتهك لكرامة الإنسانية. وهناك نمط آخر من المشاكل يتصل بإنكار حقوق المواطنة السياسية بالنسبة للمرآة وغير المسلمين، وهو موقف سوف يثير معارضة وتحديات حادة من جانب تلك الفئات داخليا ومن جانب المجتمع الدولي عامة.( )
إن كل الاعتراضات السابقة على فرض الشريعة من خلال القانون الوضعي وعلى فكرة الدولة الإسلامية، ليس من شأنها ولا هدفها منع المسلمين من الالتزام الشخصي بكل جانب من جوانب الشريعة الإسلامية. إن حقيقة كون الربا وعقود الضرار غير محرمة قانونا في بلد ما، لا يعني أن المسلمين يتعين عليهم الانخراط في مثل تلك الممارسات. فكل إنسان يستطيع ببساطة الامتناع عن أي شكل من المعاملات التجارية أو السلوك الشخصي، يراه معارضا أو غير متفق مع قناعته الدينية. وكما شددت أعلاه، ما أسعى إليه هنا هو معارضة فرض الشريعة الإسلامية بواسطة الدولة وفي صورة قانون وضعي، وليس مصادرة حق الفرد في اتباع تعاليم دينه. وعمليا في إمكان الناس العمل على توطيد قيمهم الدينية والأخلاقية من خلال عمل المنظمات الأهلية وغيرها من الأشكال المعبرة عن المجتمع المدني. ومن الصحيح أن المنع القانوني من شأنه أن يؤدي إلى توطيد سلطة ومرجعية المعايير الدينية، ولكن القضية المطروحة هنا هي كيف نضمن الالتزام الديني الشخصي دونما انتهاك لحقوق الآخرين. إن التقدير الإنساني للقانون والسياسة العامة يجب بالضرورة إنجازه عبر عملية موازنة بين مزايا وتكاليف الفرض القانوني لأي معيار، في مقابل الطرق الأخرى لدعم الخير الاجتماعي. وفي الحدود المتاحة لنا في بحث بمثل هذا الحجم، سوف أركز على تناول الإطار العام الذي من خلاله يمكن لأي نص بما في ذلك النص القرآني، أن يؤثر على السياسة العامة.
إن الافتراض الكامن في صلب المطالبات بفرض الشريعة من خلال التشريع الوضعي، هو أن المجتمعات الإسلامية تمتلك الحق والمسئولية في تنظيم حياتها العامة والخاصة وفقا لتعاليم دينها. وإذا لجأنا إلى استخدام المصطلحات الحديثة يمكنا القول أن هذه المسألة تدخل في نطاق حق تقرير المصير الثقافي إلا أن تقرير المصير الثقافي وإن كان لا يمكن التشكيك في كونه حقاً، لا يمكن أيضا اعتباره حقا مطلقاً. فالطريقة التي يمارس بها هذا الحق، لابد أن يكون لها مضامينها أو نتائجها بالنسبة لحقوق الآخرين، الأمر الذي يعني أنها قد تسفر عن انتهاكات لحقوق هؤلاء الآخرين. وهي معضلة بالتأكيد، إلا أنها معضلة قابلة للحل. في هذا الصدد كتب الأستاذ أسيجورن إيدي ( )، أن الحق في تقرير المصير هو فعليا الحق المشترك في تقرير المصير، أي حق يمارس عبر التعاون مع الآخرين، وهو ما يعني خطأ التعامل معه بوصفه حقا حصريا لتقرير المصير. وإذا أردنا الانتقال من التعميم إلى التخصيص يمكننا القول أن كل دول المجتمعات الإسلامية ملزمة بأحكام القانون الدولي العرفي والقانون الإنساني مثلها مثل أي دولة من دول العالم، علاوة على التزامها بكل المعاهدات الدولية التي صدقت عليها مثل ميثاق الأمم المتحدة الملزم لكل الدول أعضاء المنظمة الدولية. وكل تلك المصادر القانونية الدولية تضع حدوداً واضحة وحاسمة على ما يمكن للمجتمعات الإسلامية أن تفعله أو لا تفعله في تعاملاتها مع الدول الأخرى ومواطني تلك الدول. ومن الناحية العملية تلتزم الدول الأخرى في تعاملاتها مع الدول الإسلامية بتلك المبادئ في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية. وسواء كان الأمر يتعلق بتنظيم وإدارة الدولة عامة، أو كان يتعلق بمعاملة الأفراد والجماعات، أو بمعاملة مواطني الدول الأخرى، لا تملك دول المجتمعات الإسلامية حرية التصرف وفقا لما تريد أو تهوى.
وكما سبق لنا أن أشرنا من قبل هناك بعض الصياغات التقليدية للشريعة، التي لا تتسق مع المبادئ المقبولة دولياً للحكم الدستوري على المستوى الوطني، ولا مع مبادئ أساسية معينة من مبادئ القانون الدولي. وهو ما سوف يترتب عليه أنه حتى لو كان في الإمكان فرض الشريعة كقانون وضعي من خلال سلطة الدولة ومؤسساتها، لن يكون في الإمكان الدفاع أخلاقياً عن تلك العناصر التي تتناقض مع المبادئ الدولية، كما أن ذات العناصر من المستحيل الإبقاء عليها عملياً. وبالتالي فإنه أمر واضح أنه لا توجد دولة من دول العالم المعاصر، بما في ذلك الدول التي تعلن عن نفسها بوصفها دولاً إسلامية مثل: المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية والسودان، قادرة عمليا على الحياة وفقا لكل تعاليم الشريعة الإسلامية تبعا للفهم العام السائد لها في أرجاء العالم الإسلامي المعاصر. وبدلا من الإصرار على تلك الادعاءات العقيمة والزائفة، وأكرر هنا دعوتي السابقة للمسلمين في كل مكان للرفض الحاسم والصريح لمثل تلك المشاريع، ومواجهة حقائق الحياة اليومية في السياق الراهن الذي يسيطر عليه علاقات الاعتماد والتأثير المتبادل. ويتعين على المجتمعات الإسلامية أيضا أن تعمل من أجل ظهور وحماية المساحة السياسية والاجتماعية الضرورية من أجل ممارسة التأمل الحر والمبدع في القرآن والسنة والخبرات الثرية والمتنوعة التي يحتويها تاريخها الحضاري. وعندئذ فقط سوف تبدأ المجتمعات الإسلامية في اكتشاف طرق جديدة للمساهمات الإيجابية، التي في إمكانها تقديمها للحضارة الإنسانية انطلاقاً من تراثها الروحي والأخلاقي الإسلامي.
وكما سبق لي أن طرحت، أنطلق في دعوتي للتناول الذي طرحته في هذا البحث من منظور إسلامي أساسا، لأن تأسيس ما يسمى بالدولة الإسلامية من أجل فرض الشريعة الإسلامية من خلال التشريع الوضعي يمثل في حقيقة أمره نفياً لإمكانية الحياة وفقاً لتعاليم الإسلام، من واقع أن اختيار تفسيرات معينة للقرآن والسنة في سياق عملية الفرض القانوني الوضعي للشريعة الإسلامية سوف يحرم المواطنين الآخرين من الحق في الالتزام الشخصي بما يؤمنون أنه يمثل التفسير الصحيح للقرآن والسنة. وعلاوة على ذلك فإن مثل هذا الفرض من شأنه أن يقمع إمكانية الحوار الحر والمفتوح حول التفسيرات البديلة لذات المصادر. ويمكن أن نعبر أيضا عن ذات الفكرة من خلال مفاهيم الحق في تقرير المصير، من خلال القول أن فرض الشريعة الإسلامية بوصفها قانون البلاد سوف تقود إلى قمع الاختلاف أو الانشقاق السياسي بوصفه ردة أو ربما بوصفه خيانة. وهذا هو ما يدعوني إلى المطالبة بالرفض الحاسم لتلك المحاولات، ومن خلال رؤية تنطلق من العقيدة الإسلامية ذاتها.
إلا أنه من المهم وبذات الدرجة، أن نرفض رفضاً حاسماً أي محاولة لفرض ما يدعى بالدولة العلمانية، كما حدث في تركيا الكمالية و إيران في ظل حكم الشاه والنظم البعثية في العراق وسوريا. مثل تلك المحاولات التسلطية ليست فقط محكوما عليها بالفشل، حيث اعتمدت جميعها وبلا استثناء من أجل الحفاظ على وجودها، على القوة، لكنها أيضا مرفوضة من حيث المبدأ من واقع أن قيامها بمصادرة حق التعبير عن الهوية الإسلامية يشكلان مصادرة لحق المسلمين في تقرير مصيرهم الثقافي. والخلاصة أن النظم التسلطية ينبغي رفضها، سواء كانت تمارس ذلك باسم فرض الشريعة الإسلامية أو كانت تمارسها باسم العلمانية أو كوسيلة لمعارضة الاتجاهات الساعية لتأسيس الدولة الإسلامية. وعلى الرغم من اقتناعي والذي سبق أن عبرت عنه أن المحاولات الرامية إلى تأسيس دولة إسلامية تحمل معها العديد من المخاطر، فإني مقتنع بذات الدرجة بأن رفض تلك الدولة لا يمكن تحقيقه إلا من خلال العمل على تشجيع –وليس قمع– الحوار العام حول تلك القضايا. والنموذج الذي أدعو إليه هنا هو نموذج الدولة الدستورية القانونية التي تقوم بحماية وتوطيد حقوق كل مواطنيها الإنسانية، المسلمين منهم وغير المسلمين والذين يصنفون أنفسهم كإسلاميين ومعهم الذين يعلنون عن أنفسهم بوصفهم علمانيين.
وليست لدىَّ أية أوهام بأن ما أدعو إليه سوف يقابل بترحيب عام من جانب المسلمين، فالواقع أن الكثير منهم سوف يرفضون ويقاومون ما أطرحه هنا وأدافع عنه، بدعوى أنه يعبر عن نزعة علمانية تسعى إلى إبعاد الدين عن المجال العام وحصره داخل المجال الفردي الخاص. ولقد حاولت أن أرد على هذا الاعتراض من خلال الطرح الذي قدمته في هذا البحث، وشددت فيه على التمييز بين الدولة والسياسة، وضرورة العمل من أجل تسهيل قيام الدين بدور سياسي عام مع الحرص على حماية حقوق الإنسان. وإذا كنت قد طرحت أن الدور الطبيعي والمطلوب تشجيعه للإسلام في السياسة، ينبغي وضعه في إطار علاقة فصل بين الإسلام والدولة، فإني في نفس الوقت شديد الوعي بالصعوبات الحتمية التي سوف تتخلل علاقة الفصل المطلوبة. من الصعب تماما أن نحقق فصلا قابلا للاستمرار بين الإسلام والدولة، وما يمكن تحقيقه عمليا هو عملية تفاوض ديناميكية مستمرة حول تلك العلاقة، وليس وضعا ثابتا يتعين إنجازه مرة واحدة وللجميع. أي دولة، وأيضا هيئاتها التكوينية ومعها مؤسساتها، يجري فهمها وإدارتها من جانب جماعات لها معتقداتها الدينية والفلسفية، التي سوف تؤثر بالضرورة على تفكيرها وسلوكها. وسلطة الدين وقوة الدولة هما غالباً وجهان لعملة واحدة، وليس نموذجين معيارين منفصلين أو متعارضين. لأن أية دولة سوف تسعى إلى إضفاء الشرعية على سلطتها من خلال المعتقدات الدينية والخلافية السائدة بين مواطنيها، فإن الدول في المجتمعات الإسلامية سوف تحاول أن تفعل ذلك عبر توظيف إطارها المرجعي الإسلامي. و أنا هنا لا أسعى إلى خوض جدل ضد هذه القاعدة الأساسية التي لا مفر من وجودها في الحياة السياسية. وما أحاول أن أجادل دفاعا عنه هو المعنى والمضامين التي يتعين أن يحتويها هذا الإطار المرجعي الإسلامي في السياق الحديث، وليس نفي هذا الإطار كإطار قد تخطاه الزمن أو لم يعد ملائماً والسؤال الحاسم في رأيي ليس هو إذا ما كان الإسلام والدولة مرتبطين أم في الإمكان الفصل بينهما؟ فالصحيح أن ما يجب العمل من أجل تحديده وتخصيصه من جانب كل مجتمع إسلامي، هو طبيعة ومضامين تلك العلاقة في سياقها الخاص بكل مجتمع على حدة. وأنا لا أعتقد في وجود نموذج إسلامي وحيد مزعوم لتلك العلاقة والصحيح أنه في الإمكان وجود نماذج متعددة تتمايز فيما بينها وفقا لتمايز المجتمعات الإسلامية، وفقا لخصائص تكوينها وخصوصية سعيها ونضالها من أجل فهم السنن الروحية والأخلاقية للإسلام ومحاولة الحياة وفقا لها، كما تفهم وتطبق في السياق العالمي الراهن.

ملاحظات ختامية:
في المقدمة التي خصصناها لهذا البحث أشرت إلى أن البؤرة هنا هي هذا الخلط القانوني والايديولوجي، الذي يتخلل تلك المشاريع الرامية إلى تأسيس دولة إسلامية من أجل تطبيق الشريعة من خلال التشريع الوضعي. إلا أن هذا بالطبع لا يعني أني لا أهتم بالاتجاهات السياسية الراهنة في العالم الإسلامي اليوم، بل على العكس، فهدفي هو التأثير على تلك الاتجاهات من خلال التفكير النقدي والحجج المصحوبة بالبراهين القوية المدعمة لصحتها. وبوصفي باحثاً متخصصاً في الدراسات القانونية، ومسلماً ينتمي إلى السودان بخصوصية خبراته السياسية مع عملية تطبيق الشريعة من خلال التشريع الوضعي للدولة، يصعب عليَّ تماما تجاهل التكلفة المأسوية لتلك الجهود العقيمة الرامية لفرض الشريعة من خلال سلطة الدولة، وفي أي مجتمع إسلامي كان, وإني لأمل أن أكون قد نجحت على الأقل في إثارة الشكوك الجادة، حول إمكانية ومرغوبية تلك المغامرات السياسية الضالة، إن لم نقل المضللة.
وإني لأعي والألم يعتصرني أن أغلب الآراء التي أبديتها في هذا البحث، ليست فقط مثيرة للجدال، بل أيضا من الصعب نفسيا وعقليا قبولها من جانب الأغلبية العظمى من المسلمين. إلا أنه هذا لا يعني بالضرورة أن موقفي خاطئ، ولا أنه ليس من المرجح أن يحظى بقبول غالبية المسلمين مع مرور الأيام وعندما تتوفر الظروف الملائمة. ومن جانب آخر فإن الموقف الذي طرحت أبعاده هنا ليس بالضرورة صائباً، ولا هو من المرجح أن يقبل مستقبلا على نطاق واسع، لمجرد أنه سيواجه اليوم مقاومة من قبل كثير من الناس، إلا أني آمل أن التحليل الذي قدمته هنا سوف يؤدي على الأقل إلى إحداث قدر من الاهتمام الجاد والتفكير، وأن يصمد أمام التعامل النقدي أو يسقط بناء على مقوماته الذاتية، وليس بناء على رفضه من جانب أغلبية المسلمين داخل المجتمعات الإسلامية الراهنة. وفيما يتعلق بي سوف أستمر في محاولة تحسين وتوضيح الحجج التي طرحتها هنا، لأني أعتقد أنه لا يوجد بديل لقبولها الإرادي من جانب غالبية المسلمين.
في النهاية دعوني أقرر أمامكم بوضوح في ختام البحث، ما هو من المحتمل أن يكون واضحا بالفعل أمامكم من خلال بعض الملاحظات الافتتاحية، أتعامل مع الأفكار التي طرحتها أمامكم، بوصفها رسالة يتعين النضال الفعال والدائم من أجل تأكيد صحتها ونشرها داخل المجتمع، وليس بوصفها محض تحليل أكاديمي يمارسه باحث من منعزل يحصر نفسه في دائرة اهتماماته العلمية الضيقة؛ ذلك أن القضايا المثارة على درجة من الأهمية والرهانات السياسية التي أضحت تحيط بها على درجة من الجموح، بصورة تمنع تماماً من الانهماك في ترف التفكير المجرد حول العلاقة بين الشريعة والتشريع الوضعي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. وأود أن أختم بحثي بأن أستعيد أمامكم ما كان أستاذي ومرشدي الأستاذ/ محمود محمد طه يقوله للمثقفين السودانيين، الذين اعتادوا أن يخبروه أن أفكاره تبدو لهم مقنعة، ولكن السؤال هو متى يستطيع الشعب أن يقتنع بمثل تلك الأفكار؟ كان الأستاذ عندما يسمع هذا السؤال الذي كان يتكرر أمامه كثيرا يرد عليهم قائلاً: “أنتم الناس فمتى سوف تقبلونها وتعملون بها “.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:

Gianfranco Poggi, The State: Its Nature, Development and Prospects (Stanford, California: Stanford University Press, 1990), pp. 19-33; Graeme Gill, The Nature and Development of the Modern State (New York: Palgrave Macmillan, 2003), pp. 2-3
Gill, The Nature and Development of the Modern State, pp. 17-20.
Noel J. Coulson, Conflicts and Tension in Islamic Jurisprudence (Chicago, Ill.: University of Chicago Press,1969), p. 41.
See, for example, John Rawls, Political Liberalism, (expanded edition, New York: Columbia University Press, 2003), pp. 212-254, 435-490; and Jurgen Habermas, “Reconciliation Through the Public Use of Reason: Remarks on John Rawls’ Political Liberalism,” The Journal of Philosophy, 92: 3 (March 1995), pp.109-131.
See, generally, Noel J. Coulson, A History of Islamic Law (Edinburgh, Scotland: Edinburgh University Press), 1964; Abdullahi Ahmed An-Na’im, Toward an Islamic Reformation: Civil Liberties, Human Rights and International Law, Syracuse, NY, USA, Syracuse University Press, 1990, Chapter 2.
Ebrahim Moosa, “Allegory of the rule (hukm): law as simulacrum in Islam?” History of Religion, 1998, pp. 1-24, at p.12.
Bernard Weiss, The Spirit of Islamic Law, Athens, GA, University of Georgia, p. 120.
Ibid. p.116, emphasis in original.
Ibid., pp. 120-22.
Coulson, Conflicts and Tensions in Islamic Jurisprudence, p. 34.
Ibid., pp. 35-36.
See generally, An-Na`im, Toward an Islamic Reformation.
Seminar commemorating the 50th anniversary of the Declaration of Human Rights, Royal Netherlands Academy of Science, Amsterdam, The Netherlands, 10-11 December 1998.

Share this Post